(الرُّكْبان: الرُّقْبان)

نفثاتُ مكلومٍ

أَرْقَبَان: مخيَّمٌ محاصرٌ من جميعِ جهاتِه، فالأَردنُّ تغلقُ حدودَها من جهةٍ، وتفصلُ بينَ من يريدُ النَّجاةَ بحواجزَ وخنادقَ وسواترَ ترابيَّةٍ، ومن جهةٍ ثانيةٍ يطوِّقُه النِّظامُ وعصاباتُه الدَّمويَّةُ، ومن جهةٍ ثالثةٍ تتربَّصُ به إِيرانُ ومليشياتُها وضباعُها المسعورةُ التي تسرحُ وتمرحُ كما تريدُ، وتستلذُّ بلعقِ دماءِ الأَبرياءِ، وتتشهَّى رائحةَ الدِّماءِ، ومن جهةٍ رابعةٍ الأَحزابُ الكرديَّةُ الانفصاليَّةُ التي تسيطرُ على الكثيرِ من الثَّرواتِ، وترتعُ في البلادِ وترعى من دونِ حسيبٍ أَو رقيبٍ.
لقد أَغلقوا على القاطنين في هذا المخيَّمِ السُّبَلَ، وحرموهم أَبسطَ أَسبابِ العيشِ الكريمِ، فالماءُ يأتي بالصَّهاريجِ، والموادُّ الغذائيَّةُ قليلةٌ مرتفعةٌ باهظةُ الثَّمنِ، والنَّاحيةُ الطِّبِّيَّةُ أَسوأُ بكثيرٍ ممّا يقالُ وينشرُ، وكذلكَ التَّعليمُ والأمورُ الأُخرى التي مهما ذكرنا وعدَّدنا منها، فإِنَّنا لا نكادُ نستطيعُ حصرَ تلك المآسي التي يعاني منها المخيَّمُ.
والحلُّ – لو أَرادَ الذينَ يحاصرون المخيَّمَ- بسيطٌ جدّاً، فليفتحوا لهم طريقاً إِلى المناطقِ التي يرغبونَ في الذَّهابِ إِليها، ويكونُ ذلكَ تحتَ إِشرافٍ دوليٍّ، وهم قادرون على أَن يفعلوا ذلكَ بغضونِ أَسابيع، ولكنَّ الغريبَ أَنَّهم لا يهتمّونَ بأَمرِ هؤلاءِ المحاصرين، وهذا التَّغاضي والإِهمالُ والسُكوتُ على تلكَ الأَوضاعِ قد أَثارَ قلقَ الأُممِ المتّحدةِ التي أَصبحَ القلقُ عندَها مرضاً مستعصياً لا دواءَ له، فهي قلقةٌ دائماً، نسأَلُ اللهَ أَن يشافيَها من هذا الدّاءِ العُضالِ.
هذه مقدَّمةٌ لا بدَّ منها عندَ الحديثِ عن هذا المخيَّمِ الذي يئنُّ تحتَ أَقسى ظروفِ العيشِ، وموضوعُنا هو توضيحُ اسمِ هذا المخيَّمِ التَّاريخيِّ، وذكرُ لفظِه الصَّحيحِ.
أَرْقَبانُ: أَرضٌ صحراويَّةٌ قاحلةٌ تقعُ على الحدودِ السُّوريَّةِ الأَردنيَّةِ، وقريبةٌ من الحدودِ العراقيَّةِ، ولقد تداولُ النَّاسُ والإِعلامُ هذه اللفظةَ كثيراً، ولا يكادُ يمرُّ يومٌ إِلاَّ ويُذكرُ اسمُ المخيَّمِ بسببِ ما يعانيه من مشكلاتٍ، ومن عزلٍ عن المحيطِ الخارجيِّ، ومن استهتارٍ بمعاني الإِنسانيَّةِ.
إِنَّ لفظَ هذا الاسمِ من قبلِ النَّاسِ ووسائلِ الإِعلامِ قد جاءَ على صورٍ متعدِّدةٍ، ومن تلكِ الصُّورِ: (الرُّكبان – الرَّكبان- الرُّقبان- الرُّغبان- ارقبان- ارغبان- اركبان)، وبعضُهم ينطقُها بدونِ: (أَل التَّعريفِ): (ركبان ورقبان)، وهذه الأَلفاظُ هي الشَّائعةُ على أَلسنةِ النّاسِ، وفي وسائلِ الإِعلامِ.
ولبيانِ ذلكَ نعودُ إِلى معاجمِ اللغةِ وكتبِها التي تبيِّنُ لنا جذرَ هذه اللفظةِ، وما جاءَ من تصريفاتِها ومدلولاتِها، فقد ذكرَ الزُّبيديُّ في معجَمِه:
((الرقِيبُ: الحَفِيظُ، و: الرَّقِيبُ: المُنْتَظِرُ، ورَقِيبُ القَوْمِ: الحَارِسُ، وَهُوَ الَّذِي يُشْرِفُ على مَرْقَبَةٍ لِيَحْرُسَهُمْ، ورَقَبَهُ: يَرْقُبُهُ رِقْبَةً ورِقْبَاناً بِكَسْرِهِمَا ورُقُوباً بالضَّمِّ، ورَقَابَةً ورَقُوباً ورَقْبَةَ بِفَتْحِهِنَّ: رَصَدَهُ وانْتَظَرَه، كَـ: تَرَقَّبَهُ وارْتَقَبَهُ، والتَّرَقُّبُ: الانْتِظَارُ، وكذلكَ الارْتِقَابُ، وارْتَقَبَ المَكَانَ: أَشْرَفَ عَلَيْهِ وَعَلَا، والمَرْقَبَةُ والمَرْقَبُ: مَوْضِعُهُ المُشْرِفُ يَرْتَفعُ عَلَيْهِ الرَّقِيبُ، ومَا أَوْفَيْتَ عَلَيْهِ مِن عَلَمٍ أَوْ رَابِيَةٍ لتَنْظُرَ من بُعْدٍ، وَعَن شَمرٍ: المَرْقَبَةُ: هِيَ المَنْظَرَةَ فِي رَأْسِ جَبَلٍ أَوْ حِصْنٍ، وجَمْعُهُ مَرَاقِبُ، وَقَالَ أَبو عَمْرٍو: المَرَاقِبُ: مَا ارتَفَعَ مِن الأَرْضِ، وأَنشدَ:
وَمَرْقَبَةٍ كالــزُّجِّ أَشْرَفْتُ رَأْسَها أُقَـلِّبُ طَرْفِي فِي فَضَاءِ عَرِيضِ
وأَرْقَبانُ: موْضِعٌ فِي شَعْرِ الأَخْطَلِ، والصَّوابُ بالزَّايِ… ومَرْقَبُ: قريَةٌ تُشْرِفُ على ساحِلِ بَحْرِ الشَّأْم، والمَرْقَبَةُ: جَبَلٌ كَانَ فِيهِ رُقَباءُ هُذيلٍ…)). “1”
من خلالِ هذا النَّصِّ نجدُ أَنَّ المرقبةَ هي مكانُ التَّرقُّبِ والتَّرصُّدِ، وهي المكانُ المرتفعُ عمّا حولَه، ويشرفُ على مسافاتٍ بعيدةٍ، وأَرْقَبانُ: موضعٌ في الباديةِ ذكرَها الشُّعراءُ، وهي مكانٌ مرتفعٌ بالنِّسبةِ للأَرضِ حولَه، وأَهلُ المنطقةِ والبدوُ كانوا يلفظونَها: (اركبان)، وهذا دليلٌ على أَنَّ لفظَه الصَّحيحَ هو: (أَرقَبان)، وذلكَ بعد أَن سهَّلوا الهمزةَ، وقلبوا القافَ كافاً أَو غيناً في بعضِ اللهجاتِ الدَّارجةِ، كما ذكرَ أَصحابُ المعاجمِ أَنَّ هناكَ قريةً في الشَّامِ اسمُها: (المَرْقَبُ)، وهي معروفةُ إِلى اليومِ، وبُنيت فيها قلعةٌ عظيمةٌ نُسبت إِلى القريةِ، فقالوا: (قلعةُ المَرْقَبِ).
وقد ذكرَ: (أَرْقَبانَ) الشَّاعرُ الأَخطلُ الكبيرُ الذي عاشَ في العصرِ الأُمويِّ، جاءَ في كتابِ التَّكملةِ للصَّغانيّ:
((وأَرْقَبانُ: موضعٌ، قالَ الأَخطلُ:
أَزَبُّ الحاجِبَيْن بعَوْفِ سَوْءٍ من النَّفَرِ الَّذِين بأَرْقَبانِ)). “2”
وأَشارَ إِلى أَنَّها تلفظُ: (أَزْقَبان) بالزّاي، وهذا ربَّما هو تفسيرٌ من عندِه لأَنَّه لم يعرفْ الموضعَ، ولم يحدِّدْه، وقد ذكرَ هذا الموضعَ البكريُّ في معجمِه أَيضاً، فقالَ:
((أَرْقَبَان: بفتْحِ أَوَّلِه، وإِسكانِ ثانيه، بعدَه قافٌ وباءٌ معجمةٌ بواحدةٍ، على وزْنِ: (أَفْعَلَان: موضعٌ، قالَ الشّاعرُ:
أَزبُّ الحاجبينِ بعوفِ سوءٍ من النَّفَرِ الذينَ بأَرْقَبانِ)). “3”
من خلالِ هذا العَرضِ السَّريعِ يتبيَّنُ لنا أَنَّ اسمَ هذا الموضعِ الموجودِ في باديةِ الشَّامِ التي تمتدُّ على مساحاتٍ واسعةٍ من الأَراضي التي تصلُ بينَ الأَردنِّ والشّامِ والعراقِ، يبدو أَنَّ اسمَه الصَّحيحَ هو: (أَرْقَبان)، وهذا اللفظُ هو ما كنّا نسمعُه من أَهلِ المنطقةِ التي كنّا نعيشُ فيها، ونعرفُ مسمَّياتِها ومعالمَها.
————————-
1- تاجُ العَروسِ من جواهرِ القاموسِ- المرتضى الزَّبيديّ- تحقيق: جماعة من المختصين من إِصدارات: وزارة الإرشاد والأَنباء في الكويت – المجلس الوطنيّ للثّقافة والفنون والآداب بدولة الكويت- ج: /2/- ص: /513- ٥٢١/.
2- التكملة والذيل والصلة لكتاب تاج اللغة وصحاح العربية- الحسن بن محمَّد الصَّغانيّ- (ت: ٦٥٠هـ) – تحقيق: عدد من المحقِّقين- النّاشر: مطبعة دار الكتب- مصر: القاهرة – ج: /1/- ص: /141/.
3- الكتاب: معجم ما استعجم من أَسماء البلاد والمواضع- أَبو عبيد البكريّ الأَندلسيّ- (ت: ٤٨٧هـ) – النّاشر: عالم الكتب- لبنان: بيروت- الطَّبعة الثّالثة- سنة: /١٤٠٣ه/- ج: /1/- ص: /139/.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *