(تدمرتا تدمرتو: الأُعجوبةُ الجميلةُ)

بقلمِ: نفثاتُ مكلومٍ

 

يَـحْكونَ أَنَّها مدينةٌ أُعجوبةٌ، لم يعرفْ التَّاريخُ لها مثيلاً، تتربَّعُ في وسطِ باديةِ الشَّامِ، وتتحكَّمُ بطرقِ المواصلاتِ، وتشتهرُ بفرسانِها ونبّالتِها الذينَ كانوا لا يُقاوَمونَ، ولا يهابونَ الأَعداءَ، وهي مدينةٌ تضمُّ عشراتِ المعابدِ، ومئاتِ المدافنِ، وتغذِّيها قديماً بضعةُ ينابيعَ، وتشتهرُ بأَسواقِها وقصورِها وحمّاماتِها و واحتِها الغنّاءِ متراميةِ الأَطرافِ، ولا أَريدُ أَن أَذكرَ لكم ما يحتوي ثراها من ثرواتٍ وخيراتٍ.

 

هذه هي تدمرُ عروسُ الباديةِ، وأَيقونةُ الحضارةِ والتُّراثِ، عاصمةُ المملكةِ التَّدمريَّة العريقةِ من حدودِ إِيرانَ شرقاً إِلى حدودِ تركيا شمالاً والمغربِ الغربيِّ غرباً، لقد شهدت منذُ عهدِ حافظ الأسد رأس النظام السابق، إِهمالاً وعبثاً تمثَّلَ بسرقةِ آثارِها من قبلِ ضبّاطِ الأَمنِ والمقرِّبينِ من عائلتِه والشَّخصيّاتِ المرتبطةِ بالقصرِ بمصالحَ مادَّيَّةٍ وعلاقاتٍ مشبوهةٍ، ولولا اهتمامُ العالمِ بالسِّياحةِ لما وجدْنا أَيَّ اهتمامٍ بها، فقد كانَ الاهتمامُ منصبّاً من أَجلِ رفاهيةِ السُّيّاحِ وخدمتِهم، وتأَمينِ مستلزماتِهم، والسَّهرِ على راحتِهم، أَمّا المدينةُ وسكّانُها فكانوا على هامشِ الاهتمامِ، ولم تنلْ مدينةُ تدمرَ من ذلكَ إِلاَّ إقامةَ المنشآتِ التي تخدمُ السِّياحةِ، وتعبيدَ الطُّرقِ التي تُجدَّدُ عندَ زيارةِ الرُّؤساءِ والملوكِ والوفودِ، وأَثناءَ إِقامةِ المهرجانات التي فيها ما فيها من الغاياتِ والأَهدافِ الخبيثةِ.

 

وها هي المدينةُ اليومَ تئنُّ تحتَ وطأَةِ شذّاذِ الآفاقِ، ومصّاصي الدِّماءِ، والمطالبينِ بالثَّأرِ من أَبناءِ الجدودِ الذين أَذلُّوا الفُرْسَ وأَعوانِهم، وأَذاقوهم مرارةَ الهزيمةِ، وذلَّ الخيبةِ والخسرانِ، فتدمرُ اليومَ ثكنةٌ عسكريَّةٌ يتربَّعُ على عرشِها الرُّوسُ والإيرانيون، أَمَّا النَّظامُ وأَذيالُه فهم كلابُ حراسةٍ، وفئرانُ تجاربَ، وعبيدٌ وخدمٌ، يعْلفونهم بقليلٍ من الطَّعامِ والشَّرابِ، ويدقّونَ بينَهم أَسافينَ الفرقةِ والبغضاءِ، وعندما يحتاجونَ إِليهم في القتالِ يرمونَ بهم في وطيسِ المعاركِ، فيكونونَ وقودَها، ولا باكٍ يبكيهم، ولا سائلٌ يسألُ عنهم، فلا قيمةَ لمرتزقٍ تركَ وطنَه، ولا شأَنَ لخائنٍ باعَ وطنِه، وكلَّما قُتلت مجموعةٌ وانتهت تأتي مجموعاتٌ أُخرى، وهكذا دواليك…

 

إِنَّ تدمرَ اليومَ أَشبهُ بمربَّعٍ للموتِ والبطشِ، وسكّانُها أَذلّاءُ صاغرونَ يتحاشونَ مجموعاتِ القتلِ والإِجرامِ، ويخافونَ سكاكينَهم الدَّاميةَ، وأَعدادُ الجنودِ فيها يفوقُ عددَ السّكَانِ مرّاتٍ ومرَّاتٍ، فنسبةُ السَّيطرةِ على المدينةِ تتوزَّعُ بينَ تلكَ القوى المجرمةِ، فقوّاتُ النِّظامِ تشكِّلُ نسبةَ /40%/، وهي متواجدةٌ في فرعِ الأَمنِ العسكريِّ، وتساندُها مليشياتُ الدِّفاعِ المأَجورةُ المتكالبةُ التي لا ترعى عهداً، ولا تحسبُ حرمةً لأَحدٍ، ولا تحفظُ ذمَّةً.

 

وأَمّا إِيرانُ وأَذرعُها القذرةُ فهي الأَكثرُ تواجداً وثقلاً، وأَشدُّها غطرسةً وبطشاً وتنكيلاً، فهي تقتلُ وتذبحُ وتهدمُ وتسرقُ، وكلُّ ذلك بدافعِ عقيدةِ الانتقامِ والثَّأرِ، ويتجاوزُ عددُ تلكَ العصاباتِ أَربعةَ آلافٍ، يتوزَّعونَ بينَ أَحياءِ المدينةِ التي صارت محرَّمةً على أَصحابِها، وبينَ النِّقاطِ العسكريَّةِ المحيطةِ بالمدينةِ، والتي أَقاموها لتكونَ قواعدَ عسكريَّةً تقومُ بنشرِ الموبقاتِ، وتنفيذِ المؤامراتِ، والقضاءِ على كلِّ من تسوَّلُ له نفسُه أَن ينبسَ ببنتِ شفةٍ.

 

أَمّا سيطرةُ الدُّبِّ الرُوسيِّ الذي يمثِّلُ قمَّةَ الهرمِ القياديِّ، والذي يتحكَّمُ بتلكَ القوى المستأَجرةِ وعصاباتِها، فهو يتِّخذُ من القاعدة الرّوسيّةِ أَسفلَ قلعةِ تدمرَ العربيَّةِ مركزاً ومعسكراً، وهذه المنطقةُ منطقةٌ أَثريَّةٌ بامتيازٍ، والجبالُ والتِّلالُ التي تحيطُ بها ملأَى بالآثارِ والمدافنِ والمعالمِ الأَثريَّةِ والأَوابدِ، وقد أَزالوا وخرَّبوا كثيراً منها، وشقَّوا فيها الطُّرقاتِ، ورفعوا السَّواترَ الضَّخمةَ، ناهيكَ عن التَّنقيبِ الهمجيِّ الذي يتمُّ من أَجلِ سرقةِ الآثارِ والاتّجارِ بها، ويتجاوزُ تعدادُ القوّاتِ الرُّوسيّةِ الخاصّةِ :/200 عنصرٍ/ مع ضبّاطِهم، وهناكَ عصابةٌ دمويَّةٌ متوحّشةٌ معها، وهي: (مليشيا فاغنر الرَّوسيَّة) السَّيِّئة السُّمعةِ، والحاصلةِ على وسامِ الإِجرامِ بجدارةٍ، وتقومُ هذه العصابةُ المتوحّشةُ بحراسةِ حقولِ النَّفطِ والغازِ والفوسفاتِ المنتشرةِ حولَ تدمرَ، وفي باديتَها، ويبلغُ تعدادُ وحوشِها أَكثرَ من: /350/ عنصراً.

هذه الجماعاتُ المنفلتةُ تعيثُ بتدمرَ وباديتِها فساداً وخراباً، وتتحكَّمُ بثرواتِها وتسرقُها جهاراً نهاراً، ودميةُ الشّامِ بشّار لا حسٌّ ولا نفسٌ، فهو أَحقرُ من فأرٍ أَمامَ هذه القططِ والثَّعالبِ والضِّباعِ.

هذه حالةُ تدمرَ اليومَ، وقد بلغت نسبةُ الدّمارِ والتّدميرِ في مبانيها ومنشآتِها نتيجةَ قصفِ النِّظامِ وغاراتِه بمساندةِ الاحتلالِ الرُّوسيِّ والإِيرانيِّ: /62%/، ويُضافُ إِلى ذلكَ تدميرُ البنى التَّحتيَّةِ التي تتجاوز خسائرُها ملايينَ الدُّولاراتِ، والتي تُقدَّرُ على أَقلِّ تقديرٍ بمليارٍ ونصفٍ مليارٍ من الدّولاراتِ.

 

فتدمرُ مدينةُ أَشباحٍ، يعيثُ فيه اللصوصُ نهاراً، وتسرحُ فيها الكلابُ والوحوشُ ليلاً، فقد أَحالوها إِلى خرائبَ مهجورةٍ، وحفرٍ متهاويةٍ بعدَ أَن نبشوا كنوزَها وآثارَها، وجعلوها أَثراً بعدَ عينٍ. 

 

ولنا أَن نتساءلَ بعدَ كلِّ هذا: هل الرُّوسُ والفُرْسُ هم ذراعُ إِسرائيلُ التي يبطشُ ويفتكُ ويدمِّرُ في المنطقةِ العربيَّةِ كلِّها، وفي سوريةَ وتدمرَ خاصّةً، وللإِجابةِ عن هذه السُّؤالِ لا بدُّ أَن نيمِّمَ وجوهَنا شطرَ التَّاريخِ، ففي الأَخبارِ التي كتبَها الدكتور: (جواد عليّ) في كتابِه الموسوعةِ خيرُ ردٍّ على كلِّ المغفَّلينَ والخونةِ والمأَجورين، يقولُ الدّكتورُ جواد عليّ نقلاً عن المصادرِ اليهوديَّةِ في العلاقةِ بينَ اليهودِ والفرسِ، وبينَ اليهودِ والرُّومِ:

((غيرَ أَنَّه وردت أَخبارٌ أُخرى تفيدُ أَنَّ اليهودَ كانوا ناقمين على: “تدمر”، حاقدين عليها، يرجونَ من اللهِ أَن يُطيلَ في عمرِهم ليروا نهايتها، هذا الحبرُ الكبيرُ: (يوحانان: يوخانان Jochanan: Johanan 🙂 رئيسُ أَكاديميَّةِ طبريَّة، والـمُعامِرُ لأُذينةَ والزَّبّاءِ، يقولُ: (مخلَّدٌ وسعيدٌ من يدركُ نهايةَ أَيّامِ تدمر)… ووردت رواياتٌ أُخرى تشيرُ إِلى كراهيةِ يهودِ منطقةِ الفراتِ لتدمرَ، وردَ أَنّ الحبرَ: (يهودا Juda.R 🙂 تلميذُ الحبرِ: (صموئيل: Samuel) تحدَّثَ عن تدمرَ، فقالَ: (سيحتفلُ الإِسرائيليّونَ في أَحد الأَيّامِ بعيدٍ، إِنَّه عيدُ هلاكِ ترمود: Tarmud )، إِنّها ستهلكُ كما هلكت: (تمود:Tarmud ) وقد هلكت، ووردَ أَنَّ الحبرَ: (آشة(Asche.R : ذكرَ (ترمود: (Tarmud فقالَ: ترمود مثل تمود، إِنّهما شيئانِ لأَمرٍ واحدٍ، إِذا هلكَ أَحدُهما قامَ الثّاني مقامَه، ويرادُ بــ: (ترمود) مدينةَ: (تدمر). وقد اشتركَ عددٌ كبيرٌ من اليهودِ في صفوفِ أَعداءِ الزَّبّاءِ، واشتركوا مع الفرْسِ في حروبٍ مع تدمرَ، كما اشتركوا مع الرُّومانِ، وقُبِضَ على عددٍ من الأَحبارِ أُحْضِروا إِلى الملكةِ كانوا يحرِّضونَ النّاسَ على التَّدمريِّينَ…)). “1”

—————— 

المفصَّل في تاريخِ العربِ قبلَ الإِسلامِ- الدّكتور جواد عليّ- توفِّيَ سنة: /١٤٠٨هـ/-

النّاشر: دار السّاقي- الطّبعة الرّابعة: /١٤٢٢هـ: ٢٠٠١م- ج: /5/- ص: /١١٠و111/.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *