بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
بقلمِ: نفثاتُ مكلومٍ

التّاريخُ سجلٌّ حافلٌ بالعِبرِ والأَحداثِ، والذي يتبحَّرُ في أَعماقِه، ويسبرُ أَغوارَه، فإِنَّه يرى العجبَ العُجابَ، وفي هذه السُلسلةِ سنذهبُ وإِيّاكم صوبَ الماضي نستلهمُ أَحداثَه، ونستهدي بأَنوارِه، ونحاولُ إِسقاطَ أَحداثِ الماضي على الحاضرِ، واستخلاصِ العصارةِ النَّاجعةِ النَّافعةِ التي تداوي جراحَنا، وتشفي عِللَنا وأَمراضَنا.
يروي المؤرِّخُ الكبيرُ الطَّبريُّ في موسوعتِه التَّاريخيَّةِ أَنَّ الأَكاسرةَ والرَّومَ كانوا يتقاتلونَ من أَجلِ السَّيطرةِ على بلادِ العربِ، ويحاولُ كلُّ طرفٍ منهم أَن يحصلَ على أَكبرِ قطعةٍ من هذه الأَرضِ التي تموجُ بالثَّرواتِ، وتفيضُ بالخيراتِ، ولكنَّهم كانوا في نهايةِ المطافِ يتَّفقونَ على تقاسمِ هذه الأَراضي، فيجلسونَ مجالسَ مصالحاتٍ ومعاهداتٍ، فهم على الرَّغمِ من تكالبِهم على الغنيمةِ إِلاَّ أَنَّهم كانوا يحسبونَ حسابَ بلادِهم وشعوبِهم، ويعرفونَ أَنَّ الحروبَ دمارٌ وخسارةٌ، ولذلكَ يبتعدونَ عن التَّقاتلِ قدْرَ المستطاعِ، ولكنَّهم في أَشدِّ حالاتِ العداوةِ كانوا يميلونَ للمهادنةِ على حسابِ الشُّعوبِ والأُممِ الأَخرى، فقد كانوا ينظرونَ إِلى الشُّعوبِ نظرةَ ازدراءٍ واستعلاءٍ، ولا يقيمونَ لهم وزْناً واعتباراً، ويقولونَ أَنَّهم قد خُلقوا من أَجلِ أَن يخدموا أَسيادَهم، ويعملوا ليلَ نهارٍ في أَعمالِ السُّخرةِ والزِّراعةِ والصِّناعةِ وغيرِها من الأَعمالِ الأُخرى التي تتطلَّبَها وتحتاجُها إِمبراطوريّاتُهم الاستعماريَّةُ المتراميةُ الأَطرافِ.
والشَّواهدُ على هذه المؤامراتِ على منطقتِنا تعجُّ به كتبُ التّاريخِ، ومن هذه المؤامراتِ المحبوكةِ بينَ قطبي الهيمنةِ الاستعماريَّةِ قبلَ الإِسلامِ ما حدثَ بينَ الرُّومِ والفُرْسِ، في زمنِ: (أَخطيانوس وكسرى)، فقد غزا كسرى بلادَ العربِ التي يحتلُّها الرُّومُ، ولكنَّ النَّتيجةَ أَنَّ كسرى بعدَ أَخذَ هذه المدنِ، وبعدَ أَن استاقَ معه ما فيها من أَموالِ وأَنعامٍ وخيراتٍ، فقد جرت مفاوضاتٌ بينه وبينَ ملكِ الرُّومِ، فاشترى ملكُ الرُّومِ منه بلادَ الشَّامِ ومصرَ بأَموالٍ كثيرةٍ، وكأَنَّها بضاعةٌ ومتاعٌ، وصارَ يدفعُ لكسرى جعْلاً سنويَاً مقابلَ وضْعِ يدِه على هذه البلادِ الشّاسعةِ المليئةِ بالخيراتِ والثَّرواتِ، وإِليكم نتفةً من النَّصِّ الذي أَوردَه الطَّبريُّ حولَ تلكَ الغزوةِ الهمجيَّةِ، وما آلت إِليه الأَحداثُ بعدَ ذلكَ:
((فاستعدَّ كسرى، فغزا بلادَ يخطيانوس في بضعةٍ وتسعينَ أَلفَ مقاتلٍ، فأَخذَ مدينةَ دارا، ومدينةَ الرَّهاءِ، ومدينةَ منبجَ، ومدينة قنَّسرين، ومدينةَ حلبَ، ومدينةَ أَنطاكيَّةَ – وكانت أَفضلَ مدينةٍ بالشّامِ- ومدينةَ فاميةَ، ومدينةَ حمص، ومدناً كثيرةً متاخمةً لهذه المدائنِ، عنوةً، واحتوى على ما كانَ فيها من الأَموالِ والعُروضِ، وسبى أَهلَ مدينةِ أَنطاكيَّةَ… وأَمَّا سائرُ مدنِ الشَّامِ ومصرَ، فإِنَّ: (يخطيانوس) ابتاعَها من كسرى بأَموالٍ عظيمةٍ حملَها إِليه، وضمِنَ له فديةً يحملُها إِليه في كلِّ سنةٍ على أَلاَّ يغزوَ بلادَه، وكتبَ لكسرى بذلكَ كتاباً، وختمَ هو وعظماءُ الرُّومِ عليه، فكانوا يحملونها إِليه في كلِّ عامٍ.
فأَمرَ الملكُ: (قباذ بن فيروز) في آخرِ مُلْكِه بمسحِ الأَرضِ، سهلِها وجبلِها ليصحَّ الخراجُ عليها، فمُسِحت، غيرَ أَنَّ: (قباذ) هلكَ قبلَ أَن يُسْتحكمَ له أَمرُ تلكَ المساحةِ، حتَّى إِذا ملكَ ابنُه كسرى أَمرَ باستتمامِها، وإِحصاءِ النَّخلِ والزَّيتونِ والجماجمِ…)) “1”
لقد كانَ الأَكاسرةُ يأخذونَ الخراجَ على الأَراضي والمياهِ والأَشجارِ والأَنعامِ، وعن السُّكّانِ، وقد أَمرَ الملكَ الفارسيُّ: (قُباذ) أَن يمسحَ عمّالُه أَرضَ العربِ سهلَها وجبلَها، وزيتونَها ونخلَها، ورؤوسَ أَهلِها حتَّى يأخذَ الخراجَ عن كلِّ شيءٍ في هذه البلادِ، وها نحنُ اليومَ نشاهدُ ذلكَ واقعاً ملموساً بأَمِّ أَعينِنا، فبلادُنا أَصبحت مزارعَ للآخرينَ، وصارَ حكّامُ بلادِنا جباةً عندَ أَسيادِهم، وها هي بلادُنا العربيَّةُ تُقْضمُ من جوانبِها، ومن وسطِها، حيث يسْرحُ فيها الغرباءُ ويمرحونَ، ويدْخلونَ ويخْرجونَ، وشعوبُنا العربيَّةُ لا حولَ لها ولا قوَّةَ، ولا تستطيعُ العبورَ من بلدٍ إِلى آخرَ إِلَّا بشقِّ الأَنفسِ، وفي بعضِها لا يستطيعُ المواطنُ أَن يعبرَ من قريةِ إِلى أَخْرى مهما حاولَ إِلى ذلكَ سبيلاً، وها نحنَ اليومَ في بلادِ الشّامِ نقْتلُ على حدودِ الدُّولِ التي تدَّعي حقوقَ الإِنسانِ، وذلكَ حينَ يحاولُ أَحدُنا أَن يفرَّ من آلاتِ القتلِ والإِجرامِ التي يمارسُها النِّظامُ الدَّمويُّ، والعالمُ كلُّه يستمعُ بمشاهدِ قتْلِنا وتشريدِنا.
كم هو محزنٌ ومخجلٌ أَن تعيشَ في بلادٍ ملأَى بالخيراتِ، وأَنتَ لا تملكُ ثمنَ رغيفٍ الخبزِ، وكم هو قاتلٌ أَن ترى من يسْرقُكَ يتكرَّمُ عليكَ بفتاتٍ من خيراتِ بلادِكَ المسروقةِ، وكم هو صادمٌ إِلى حدِّ الجنونِ أَن تجدَ المنظَّماتِ ووسائلَ الأَعلامِ تتهارشُ وتتسابقُ على تصويرِ أَهلِ الشّامِ وهم يقفونَ طوابيرَ على معوناتٍ خلَّبيَّةٍ زهيدةٍ تذْهبُ أَغلبيَّةُ عائداتِها إِلى القائمينَ عليها، ولا يصلُ منها إِلى المستحقّينَ الحقيقيّينَ إِلاَّ القليلُ القليلُ، فقد تلاشت وتبخَّرت في المكاتبِ والسَّراديبِ والمستودعاتِ، وتناثرت في الطُّرقاتِ والأَزقَّةِ الهلاميَّةِ الضَّيِّقةِ، ثمَّ جاءت الغيلانُ والوحوشُ فانقضّت عليها نهشاً والتهاماً، فتركتْها خاويةً على عروشِها، ولم تتركْ لمن وراءَها إِلاَّ بقايا ما فسدَ من شرابٍ وطعامٍ، وما كانَ مهترئاً مكسَّراً من لباسٍ وأَثاثٍ.
——————-
1- تاريخُ الطَّبريّ- محمّد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآمليّ، أَبو جعفر الطّبريّ- توفِّـيَ سنة: /٣١٠هـ/- النّاشر: دار التُّراث- لبنان- بيروت- الطَّبعة الثّانية – سنة: /١٣٨٧هـ/-ج: /2/- ص: /١٥٠149 حتَّى 150/.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *